أثارت صورة جمعت بين رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون، والزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل الشيخ موفق طريف، في أروقة الفاتيكان، يوم تنصيب البابا لاوون الـ14، موجة جدل حاد في لبنان والمنطقة، تجاوزت الإطار البروتوكولي إلى عمق التمثيل والشرعية، ولكن انتشارها كان أشد وقعاً داخل الطائفة الدرزية، محدثاً زلزالاً سياسياً في صفوفها، وعلق الإعلام الإسرائيلي على اللقاء بالقول، “صورة لا نراها كل يوم”.
التقطت صورة مصافحة “ودية” بين الرجلين، ولكنها في المفهوم السياسي العام في لبنان ليست مجرد مصافحة عابرة، فحين يظهر رئيس دولة لا تزال نظرياً في حال حرب مع إسرائيل، وهو يبتسم أمام شخصية دينية من تلك الدولة، يصبح الصمت الرسمي “مشبوهاً”، والنفي اللاحق أكثر ضجيجاً من “الاعتراف”.
وتكاثرت الأسئلة، ومنها: هل كان اللقاء عفوياً؟ أم مدروساً؟ وهل الشيخ طريف مجرد زائر ديني، أم حامل مشروع ناعم للطائفة الدرزية في لبنان وسوريا ؟
الضجة لم تندلع لأن الصورة انتشرت، بل لأن ما ترمز إليه بات واضحاً، هناك من يريد إعادة رسم خريطة الزعامة الدرزية في الشرق الأوسط، من بوابة الفاتيكان، لا من بوابة المختارة أو السويداء، علماً أن الدعوة التي وجهت للشيخ طريف، جاءت بصفته ممثلاً عن الطائفة الدرزية في العالم.
عون ينفي معرفته بطريف
على أثر البلبلة التي أحدثتها الصورة في الأوساط اللبنانية، وبخاصة الدرزية، صدر بيان عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية في (لبنان)، أشار إلى أنه “خلال توجه عون إلى مقعده في القداس الحبري الأول للبابا لاوون الـ14، تقدم منه أحد رجال الدين الدروز المشاركين في القداس وصافحه، علماً أن رئيس الجمهورية لا يعرفه ولم يسبق أن التقاه”.
وتابع البيان، “تبين فيما بعد أنه الشيخ موفق طريف، ممثل الدروز في إسرائيل، وقد تعمدت هيئة البث الإسرائيلية توزيع الصورة مع تعليق يجافي الحقيقة”. وأشار مكتب الإعلام إلى أن “مثل هذه الممارسات المشبوهة تتخصص بها وسائل الإعلام الإسرائيلية في لقاءات دولية مماثلة، وهي لا تلغي حقيقة الموقف اللبناني الرسمي عموماً، وموقف الرئيس عون خصوصاً، ومن ثم لا حاجة إلى الترويج لمثل هذه الأكاذيب وخدمة العدو الإسرائيلي، لذا اقتضى التوضيح”.
لكن البيان أشعل موجة نقاش آخر، وأكثر حدة، وتساءل كثير من المتابعين: كيف يمكن لرئيس الجمهورية ألا يعرف الشيخ طريف، وهو شخصية معروفة ويظهر كثيراً في الإعلام العربي والأجنبي؟ ووفقاً لمصادر من المجلس الديني الأعلى كانت رافقت الشيخ طريف إلى روما، في تصريحات لـ”اندبندنت عربية” فإنه “جرى حديث ودي بين الرجلين, وأن الرئيس تعرف إلى سماحته فوراً”، وتابعت المصادر أن المجلس الديني لم يصدر بياناً توضيحياً للقاء “منعاً لإحراج رئيس الجمهورية اللبناني”.
وكانت “اندبندنت عربية” حصلت على معلومات أفادت أن البيان الرئاسي جاء بعد ضغط من قبل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان وليد بيك جنبلاط على قصر بعبدا، وصولاً إلى التهديد بالانسحاب من الحكومة من خلال الوزراء المنتمين إليه، لكن مصادر الحزب التقدمي الاشتراكي استهجنت المعلومات، متسائلة “كيف يمكن للحزب أن يرشد القصر إلى طريقة عمله؟”، في حين أكدت مصادر من بعبدا لـ”اندبندنت عربية” إلى أن “كل ما أشيع حول البيان، وما أثير في وسائل التواصل عار عن الصحة جملة وتفصيلاً، وأن لا حديث ودياً جرى بين الرجلين في الفاتيكان”.
يرى كثير من المتابعين أن إنكار رئيس الجمهورية اللبنانية معرفته بالشيخ موفق طريف، على رغم الصور التي أظهرت مصافحته له في الفاتيكان، ليس تفصيلاً بروتوكولياً أو سهواً شخصياً، بل يحمل دلالات سياسية دقيقة للغاية، ويمكن تفسيره من زوايا عدة. فالرئيس عون، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية في مرحلة انتقالية دقيقة، يدرك أن أي اعتراف رسمي بشيخ الطائفة الدرزية في إسرائيل قد يفهم على أنه شرعنة لدور طريف خارجها، وإقرار ضمني بشرعية تمثيله طائفة لبنانية أو إقليمية، وهو ما يمس مباشرة بموقع الزعامة الدرزية في لبنان، خصوصاً زعامة المختارة. والاعتراف بطريف قد يفسر كـ”مجاملة” لإسرائيل على حساب الزعامة التاريخية للدروز اللبنانيين، لذلك جاء الإنكار كرسالة طمأنة بأنه “لا مرجعية درزية للبنان خارج حدوده”.
أضف إلى ذلك أن أي تواصل رسمي أو حتى شبه رسمي مع شخصية دينية مقيمة في إسرائيل (حتى لو كانت درزية) يستثمر مباشرة في سياق “التطبيع”، ولأن طريف زار دولاً عربية، وتحدث باسم “الدروز في الشرق الأوسط”، فإن الاعتراف به يمثل لغماً سياسياً داخلياً، وبخاصة أمام جمهور الحزب. من هنا قد يكون إنكار الرئيس معرفته بالشيخ طريف جاءت لأسباب سياسية تتعلق بميزان الطائفة الدرزية، والتحالفات الداخلية، وتوازنات الصراع العربي – الإسرائيلي، لا لأنه فعلاً لا يعرفه، فالصورة كانت واضحة، لكن المصلحة السياسية فرضت النفي العلني.
صراع تمثيلي وليس دينياً
لكن “الصورة” فتحت ملفاً “مسكوتاً عنه” في العلاقات داخل الطائفة الدرزية، حيث تلتقي السياسة بالدين، وتتصارع المرجعيات على من يمثل الدروز في الداخل والخارج. يمثل وليد جنبلاط الزعامة السياسية التاريخية للدروز في لبنان، وورث الزعامة كما هو معروف عن والده كمال جنبلاط، وينظر إليه كمرجعية سياسية للغالبية الساحقة من دروز لبنان، وصاحب نفوذ إقليمي ودولي في التفاوض باسم الطائفة.
في المقابل ورث الشيخ موفق طريف الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية في إسرائيل، عن جده الشيخ أمين طريف ضمن تقليد عائلي. وعلى عكس جنبلاط، فإن طريف لا ينتمي إلى مسار سياسي، بل يمثل القيادة الدينية الرسمية للطائفة في إسرائيل. من هنا فإن التنافس لا يدور حول الدين أو الفقه الديني، بل يتمحور حول من هو المرجع الحقيقي والشرعي للدروز كأقلية إقليمية موزعة بين دول الصراع (لبنان، سوريا، إسرائيل). وفي حين يرى جنبلاط نفسه ممثلاً شرعياً لتاريخ طويل من النضال السياسي، وهو إن صح التعبير “يستأثر بالقرار الدرزي” في المنتديات الدولية والعربية، لكنه حذر جداً من محاولات إسرائيل استخدام طريف كـ”وجه مقبول” للحديث باسم الطائفة.
مراحل التباين
التباين بين الشيخ طريف ووليد جنبلاط لم يكن دائماً واضحاً أو علنياً، لكنه بدأ يتبلور تدريجاً مع تحول دور طريف من مرجعية دينية محلية داخل إسرائيل إلى شخصية تؤدي دوراً إقليمياً باسم الطائفة الدرزية. وكثيراً ما جمعت الرجلين علاقة “ود واحترام متبادل”، وكان ينظر إلى طريف في لبنان كمرجعية دينية درزية داخل الأراضي المحتلة، من دون أن يتجاوز حدوده نحو التمثيل السياسي.
في هذه المرحلة كانت العلاقة مع جنبلاط قائمة على التوازن التقليدي: السياسة في يد الزعامات اللبنانية، والدين في يد المشايخ الروحيين كل ضمن حدوده الجغرافية. بدأ التحول عندما بدأ طريف يزور دولاً أوروبية، ويلتقي مسؤولين دوليين، ويتحدث عن الدروز “كأقلية إقليمية”، وليس فقط كمكون داخل إسرائيل. هنا بدأ التباين مع جنبلاط يظهر بصمت، إذ رأى في هذا التوسع محاولة لخلق “مرجعية بديلة” قد تزيح زعامة المختارة من تمثيل الدروز إقليمياً. وبعد الحرب السورية (2011)، وخلال معارك جبل العرب في سوريا، حاول طريف أن يؤدي دوراً في حماية دروز سوريا عبر التنسيق مع النظام أو مع إسرائيل، بينما كان جنبلاط يدعم المعارضة، قبل أن يتحول لاحقاً إلى الحياد.
وبعد انفتاح بعض الدول العربية على إسرائيل وتوقيع “اتفاقات أبراهام”، بدأ طريف يتردد على الإمارات كممثل للدروز في المنطقة، وليس فقط في إسرائيل. وكان لاستقبال الرئيس الإماراتي 2024، وقع كبير، وهو ما اعتبر “تجاوزاً خطراً” لزعامة جنبلاط، ومحاولة إسرائيلية لصناعة “دروز معتدلين” تابعين لمحورها، وهذا يفسر سر التوتر الصامت بين الرجلين. من هنا قيل إن بيان قصر بعبدا الذي أنكر معرفة الرئيس عون بطريف، لم يكن موجهاً لطريف وحسب، بل كان استجابة مباشرة لغضب جنبلاط من هذا الاختراق.
جنبلاط والشرع
تزامنت تلك الزيارة مع تعرض دروز جرمانا لضغط أمني ومجازر محدودة النطاق، مما فتح الباب أمام انقسام درزي – درزي حاد في قراءة الموقف، بين من رأى في الزيارة خطوة واقعية لحماية الدروز، ومن اعتبرها “انتكاسة” لكرامة الطائفة التي دفعت أثماناً باهظة للحفاظ على حضورها وقرارها الحر.
وهنا تجلت أبرز لحظات التباين العلني والخطر بين جنبلاط والشيخ موفق طريف. ففي حين كانت جرمانا، وهي بلدة درزية قرب دمشق، تتعرض لضغوط أمنية وقصف من جماعات موالية للنظام، وسط صمت رسمي وخذلان من قبل مؤسسات الدولة السورية، وتزامناً كان هناك تصعيد إسرائيلي في الجنوب السوري، وضغوط على الدروز في السويداء، وانكفاء واضح لقوى المعارضة، زار جنبلاط دمشق وقابل الرئيس أحمد الشرع في لحظة حرجة، وأظهر تحولاً كاملاً في موقفه من النظام، وبرر زيارته بأنها محاولة لحماية ما تبقى من الدروز في سوريا، وتأمين خطوط اتصال مع الدولة السورية لتجنيب الطائفة مذبحة محتملة، لكنه لم يصدر أي موقف مباشر يدين ما يحصل في جرمانا، مما اعتبره بعض المراقبين تجاهلاً متعمداً أو تسوية على حساب “الدم الدرزي”.
على المقلب الآخر، لم يكن طريف على وئام يوماً مع النظام السوري، وأصدر بياناً عالي النبرة يطالب بـ”حماية دولية للدروز” ويندد بتواطؤ النظام، وحذر من التداعيات الخطرة التي قد تنجم عن استمرار العنف وتأثيرها في أمن وسلامة أبناء الطائفة الدرزية في سوريا، وأكد أهمية تضافر الجهود الإقليمية والدولية لضمان حماية حقوق الأقليات في سوريا، وفي مقدمها الطائفة الدرزية التي عانت طويلاً تداعيات الصراع الدائر في البلاد.
قسم هذا الحدث الدروز إلى معسكرين: معسكر الواقعية الجنبلاطية الذي رأى أن الشرع هو من يمسك بالدولة، والزيارة ضرورة، ومعسكر السيادة “الروحية الطريفية”، الذي قال “لا تسوية على الدم ولا شرعية لنظام يقتل أبناء الطائفة”. تلك الزيارة مثلت لحظة اختبار بين دروز السلطة ودروز الكرامة، بين من يسعى إلى ضمان البقاء ولو على حساب المبادئ، ومن يرفع الصوت ولو من دون أدوات قوة.
في زمن تتشظى فيه المرجعيات، ويتنازع فيه الدين والسياسة على الصوت والمكان، يتحول التنافس بين وليد جنبلاط والشيخ موفق طريف من خلاف في الرؤية إلى صراع على من يترجم الهوية الدرزية في زمن الاصطفافات الكبرى. وهو ليس خلافاً على الطقوس أو المبادئ، بل على من يملك مفاتيح التمثيل: الزعيم الذي يحمل إرث المختارة، أم الشيخ الذي يحمل توقيع المؤسسة الدينية في زمن التطبيع؟ وبينهما تبقى الطائفة الدرزية رهينة سؤال أعمق: هل يمكن للأقليات أن تبقى خارج لعبة المحاور، أم أن البقاء نفسه بات رهينة الاصطفاف؟ في هذا التنافس، لا يحسم النصر بالخطابات ولا بالمصافحات، بل بمن يحفظ الكرامة ويحمي الوجود، من دون أن يبيع الهوية. مقتبس من اندبندنت عربية.