سلمان زين الدين: والى ثلاثة عقود، وبالتحديد في العام 1997، كان لي شرف زيارة شيخ الأدب الشعبي سلام الراسي، في شقته الواقعة قرب فندق البريستول. وكان الهدف من الزيارة الحصول على نبذة عن حياته لإدراجها في كتاب التربية الوطنية والتنشئة الوطنية المزمع إصداره عن المركز التربوي للبحوث والإنماء، في إطار المناهج الجديدة للتعليم العام، وتحديداً في المحور المتعلق بالفولكلور والمأثورات الشعبية في كتاب الصف الثامن من التعليم الأساسي، وهو ما حصل بالفعل. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الكتاب المذكور هو أحد كتابين اثنين، بالإضافة إلى كتاب التاريخ، نص اتفاق الطائف على توحيدهما، فتوحّد الأول بينما ضاع الثاني في دهاليز التجاذبات السياسية. ومن محاسن الصدف في حياتي، أنني كنت يومها أحد أعضاء لجنة تأليف الكتاب المذكور، مع نخبة من المؤلفين.
وبالعودة إلى وقائع الزيارة، وفي معرض الكلام على منطقة وادي التيم، قال لي سلام الراسي حرفيًّا: أنتم سبّاقون في الحضارة. فقلت له: من تقصد بـ «أنتم»؟. فأجاب: أنتم أهل وادي التيم. واستطرد قائلاً: إن معظم ما كتبته في حياتي مصدره تلك المنطقة التاريخية. وبذلك، يعود إلى سلام الراسي فضل توثيق «حضارة» وادي التيم، بما هي عادات وتقاليد وفولكلور ومأثورات شعبية، بتصرّف يقتضيه الأدب الشعبي، وإطلاقها إلى العالم أجمع.
اليوم، وبعد حوالى ثلاثة عقود على تلك الزيارة اليتيمة، يفاجئنا المخرج السينمائي رمزي الراسي، ابن سلام، بفيلمه الوثائقي «وادي التيم» الذي كان لي شرف المشاركة فيه مع مجموعة كبيرة من وجوه هذه المنطقة التاريخية، وقد جرى إطلاقه الخميس الواقع فيه 20/2/2024، في دار النمر للفن والثقافة، بحضور حشد كبير من أبناء المنطقة والمهتمين. على أنه لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن الفيلم المذكور هو من إنتاج «مؤسسة التراث الدرزي» التي أسّسها أحد أبناء تلك المنطقة الشيخ سليم خير الدين، الوفي لمنطقته، والبار بأهله، وصاحب الأيادي البيض في غير مجال.
يأتي إطلاق الفيلم في لحظة تاريخية لبنانية مؤاتية، مع انطلاقة عهد جديد طالما انتظره اللبنانيون، ويعلقون عليه أكبر الآمال. وهي لحظة تمسّ فيها الحاجة إلى التضامن الوطني بين اللبنانيين، أولئك الذين تجمع بينهم مشتركات الماضي، ومعاناة الحاضر، وتحدّيات المستقبل، شاءوا ذلك أم أبوا. ولعلّ الرسائل المتعددة التي يطلقها رمزي الراسي في فيلمه هي التي حدت بي إلى إطلاق مثل هذا الحكم. وهي رسائل موجهة إلى الداخل والخارج، على حدٍّ سواء، تقول إن هذا الوطن الذي تمثّل منطقة وادي التيم نموذجاً مصغّراً عنه هو وطن محكوم بالبقاء، وأهله محكومون بالعيش معاً، شاء الآخرون ذلك أم أبوا.
يظهّر الفيلم، من خلال المشاهد والمقابلات، جمال الجغرافيا وعراقة التاريخ، في وادي التيم. تبرز المشاهد أهمية الموقع الجغرافي التاريخية؛ ذلك أن وادي التيم يشكّل نقطة التقاطع بين لبنان وسوريا وفلسطين وطالما كان ممرًّا للقوافل التجارية عبر التاريخ بين الدول الثلاث، ومقرًّا للقرار السياسي في لبنان في جزء من التاريخ الوسيط. وتبرز جماليته الباذخة التي يتجاور فيها جبل الشيخ وسهل البقاع ونهر الحاصباني، ويتناغم الجبل والسهل والوادي في معزوفة جغرافية واحدة، ويتصادى بياض الثلج وخضرة المرج وزرقة السماء في مشهد واحد. أمّا المقابلات التي أجريت مع عشرات من أبناء المنطقة الممتدة من دير العشاير شمالاً إلى مرجعيون والخيام جنوباً، مروراً بحاضرتي وادي التيم التاريخيتين راشيا وحاصبيا، فتبرز التفاعل بين أهل المنطقة، على تنوّع انتماءاتهم الدينية والمذهبية والسياسية، في السرّاء والضرّاء. وهو ما يعبّر عنه بعفوية وصدق المشاركون في الفيلم، وتدعمه المشاهد المتنوّعة فيه، ويتمظهر في وحدة العادات والتقاليد، المشاركة في الأفراح والأتراح. ولعلّ إشارة الشيخ المؤرّخ غالب سليقا، أحد المشاركين في الفيلم، إلى تجاور الدلافة الشيعية وكوكبا المارونية وأبو قمحة الأرثوذكسية والفرديس الدرزية والهبارية السنية في المنطقة نفسها، هي خير دليل على هذا التنوّع ضمن الوحدة اللبنانية. وتبرز المقابلات عراقة المنطقة التاريخية وموقعها الاستراتيجي، وهو ما تدعمه الآثار الموجودة في غير قرية تيمية، بدءاً من قلعة دير العشاير، مروراً بقلعة راشيا وقصر عين حرشا وحصن النبي صفا، وانتهاءً بسراي حاصبيا.
رسائل متعدّدة يطلقها الراسي في فيلمه الجميل، الأول من نوعه عن وادي التيم، يوجّهها إلى المقيمين والمغتربين والعالم أجمع؛ أمّا المقيمون فرسالته إليهم أن اتّحدوا في إطار الوطن، فتاريخكم واحد، وثقافتكم مشتركة، وتحدّياتكم هي نفسها. وأمّا المغتربين فرسالته لهم أن عودوا إلى وطنكم الجميل ولا تدعوه لكل طارق ليل أو عابر سبيل. وأمّا رسالته إلى العالم فهي أن لبنان رسالة في التنوّع والعراقة والجمال، ونموذج مصغّر عن العالم الكبير، فحافظوا عليه، ولا تدعوه في مهب التجاذبات الإقليمية والدولية.
وعودٌ على بدء، يثبت رمزي الراسي في فيلمه أنه ابن أبيه؛ فسلام الراسي وثّق «حضارة» وادي التيم بالكلمة التي نصّبته شيخاً للأدب الشعبي بلا منازع. ورمزي وثّق «حضارة» الوادي بالصورة التي تنمّ عن مخرج سينمائي متمكّن. فهذا الشبل من ذاك الأسد. والراسيان كلاهما ثابت في مجاله، راسخ في معرفته، والراسي في اللغة هو الثابت الراسخ، ولكلّ امرئ من اسمه نصيب.