00963-942-374376 WhatsApp

السويداء على صفيح الصراعات، الفصائل بدل الجيش، المشايخ بدل المؤسّسات، وجهاء العائلات بدل البلديات.

تبرز السويداء واحدةً من بين المناطق التي بقيت في هامش الاصطفافات العسكرية الكُبرى، وتبدو مختبراً حسّاساً لمعنى الدولة ما بعد السقوط. في اللحظة التي انهار فيها النظام المركزي، لم تظهر في السويداء إرادة موحّدة للحكم. طفت في السطح زعامات متنازعة على المرجعية والشرعية، ليس باسم الطائفة الدرزية فقط، بل باسم معاني “الحماية” و”الخصوصية” و”الكرامة”، وهي مفرداتٌ تتّكئ على تاريخ حافل بالمظلومية، ولكنّها اليوم تُستَخدم أحياناً لترسيخ فوضى السلاح وتطييف المجال العام.

يحاول الشيخ حكمت الهجري استعادة موقع “المرجعية العليا” لطائفة الموحّدين الدروز، مُتبنّياً خطاباً يراوح بين العزلة السياسية والمطالبة بالحماية الدولية، في مشهدٍ يذكّر بتجارب الطوائف في مراحل ما قبل الدولة. لكنّه يُواجِه، في المقابل، تآكلاً فعلياً في الحضور الشعبي. في الجهة الأخرى، تقف مرجعيات دينية أخرى، مثل الشيخَين يوسف جربوع وحمود الحناوي، فالرجلان يفضّلان الانخراط المشروط في الدولة الجديدة بقيادة الرئيس السوري أحمد الشرع، مع تأكيد الحفاظ على الخصوصية الثقافية والإدارية للسويداء، لا رفض الدولة برمّتها. لكن هذه البراغماتية لا تكفي وحدها ما لم تتحوّل مشروعاً سياسياً واضحاً، متحرّراً من عبء الحسابات العائلية أو التنازلات الميدانية. وبين المرجعيات الدينية، تنشط فصائل مسلّحة تنقسم هي الأخرى بين من يسعى إلى التعاون مع الدولة الجديدة، مثل حركة رجال الكرامة ، و”أحرار جبل العرب”، وأخرى ترى في كلّ تقارب مع دمشق خيانةً، وتدفع باتجاه الحكم الذاتي، بل حتى التقاطع مع قوى خارجية مثل قاعدة التنف وقوات سوريا الديمقراطية (قسد).

ما من ضمانة حقيقية اليوم ألا تتحوّل السويداء بؤرةً أخرى لتجربة “الإدارة الذاتية” المفروضة بحكم الأمر الواقع، كما حدث في مناطق أخرى من البلاد. تتكشف هشاشة المشهد أكثر عندما ننظر إلى وظائف الدولة في السويداء. فالمؤسّسات التي كان يُفترض أن تكون بوصلات الانتقال (الداخلية والمحافظة والقضاء المحلّي) تبدو اليوم مجرّد أطر شكلية. تمثّل محاولة الشرع فرض الانضباط في السويداء، بتعيين العميد أحمد هيثم الدالاتي، مغامرةً مزدوجةً، فهو يُقدَّم “رجلاً قوياً” من خارج منظومة المحاصصة العائلية والطائفية، ما يمنحه صورة إصلاحية في نظر بعض الأوساط. لكنّ افتقاره إلى الجذور الاجتماعية داخل المحافظة يجعله عرضةً لهجمات التخوين من التيّار المتشدّد. وتزيد التسريبات عن لقائه مع وفد أمني إسرائيلي (رغم نفيه المتأخّر) من تعقيد موقعه، إذ بات بقاؤه مرهوناً بقدرته على فرض نتائجَ ملموسة ميدانياً، لا بمجرّد إثبات الولاء السياسي. لكن الأخطر من كل ذلك هو ما يمكن تسميته بـ”انفصال الوعي السياسي عن الواقع الاجتماعي”. فغالبية سكّان السويداء، المنهكين اقتصادياً والمنقسمين اجتماعياً، لا يرون أنفسهم ممثّلين لا في خطابات المرجعيات الدينية ولا في سلوك الفصائل المسلّحة. يشعر المواطن العادي بأنه محاصر بين “زعامات تتنازع فوق رؤوسهم” من دون أن تقدّم أي أفق فعلي لحلّ الأزمات المتفاقمة: البطالة، الهجرة، الانهيار التعليمي، تفشي الجريمة المنظمة.

في ظلّ ذلك، يصير المشهد في السويداء أقرب إلى فسيفساء من المصالح المتقاطعة: مشايخ عقل بلا قاعدة صلبة، فصائل بلا رؤية موحّدة، وشباب مهاجرون أو معطّلون بلا تمثيل. أمّا الدولة، فهي حاضرة فقط عبر قوات أمنية غريبة عن المكان، لا تملك القدرة على الاندماج في نسيجه، ولا تلقَى إلا الرفض أو الحذر. وما من ضمانة حقيقية اليوم ألا تتحوّل السويداء بؤرةً أخرى لتجربة “الإدارة الذاتية” المفروضة بحكم الأمر الواقع، كما حدث في مناطق أخرى من البلاد. يتنامى الخطر مع تآكل أدوات الدولة، وتنامي منطق البدائل اللاشرعية: الفصائل بدل الجيش، المشايخ بدل المؤسّسات، وجهاء العائلات بدل البلديات. وهذا ما جعل فتح قنوات التواصل الأمنية غير المباشرة مع إسرائيل أمراً مطروحاً، بل مقبولاً من بعض أركان السلطة السورية الجديدة، لا بوصفه خياراً سياسياً، بل باعتباره إجراءً وظيفياً اضطرارياً في ظلّ عجز الدولة عن فرض سيادتها على الفصائل المسلّحة التي ترفض الانضواء تحت وزارة الدفاع. ففي محافظة باتت مؤسّساتها محاصَرة من مرجعيات دينية متنازعة وفصائل تمتلك السلاح وشرعية الأرض، صار الاتصال مع خياراً تفرضه الضرورة الأمنية لا الرغبة السياسية.

نموذج السويداء يجب عدم قراءته قضيةً درزيةً فحسب، بل مؤشّراً أولياً لما قد تشهده مناطق أخرى من البلاد. وهنا لا بدّ من تفكيك هذا “الاضطرار”. فحين يجد الشرع نفسه مضطراً إلى توسيط طرف ثالث ربّما (إسرائيل) للحدّ من الانفجار في الجنوب، فذلك يعكس إخفاقاً داخلياً وقطيعة بين الدولة الانتقالية وقواعدها المفترضة في مجتمعات الأطراف. وهو أمر ينذر بتحوّل خطير: من سلطة مركزية عاجزة إلى مراكز نفوذ محلّية تتفاوض كلّ منها على شروط وجودها، سواء مع دمشق أو مع الخارج. وبهذا المعنى، فإن نموذج السويداء يجب عدم قراءته قضيةً درزيةً فحسب، بل مؤشّراً أولياً لما قد تشهده مناطق أخرى من البلاد: تصدّع السلطة المركزية، صعود الهُويَّات الفرعية، عسكرة المجال العام، عودة شبكات التهريب أداة تمويل للحكم المحلّي. وهو ما يعيد إنتاج عناصر الفوضى التي طالما غذّت الحرب السورية منذ 2011.

المفارقة أن القوى التي تتذرع بـ”الخصوصية الدينية” أو “الحماية من التهميش” لرفض الانخراط في مؤسّسات الدولة الجديدة، هي ذاتها التي تمارس التهميش الميداني ضدّ أي مشروع للدمج الوطني. فكيف يمكن بناء نظام جديد بينما فصائل مسلّحة تضع شروط بقائها فوق القانون؟ كيف يمكن لحكومة الشرع أن تتحدّث عن وحدة سورية بينما فصائل في الأرض ترفض تسليم سلاحها، وترى نفسها ممثلاً شرعياً لطائفة أو منطقة من دون غيرها؟

هذا هو جوهر التحدّي في السويداء، ليس في حجم الخطر الأمني القائم، بل في الرسائل السياسية التي يرسلها هذا الخطر إلى كامل الجغرافيا السورية. فإمّا أن تُحل عقدة الزعامة والصلاحيات في الجنوب عبر صيغة اندماج تدريجية، وإما أننا سنجد أنفسنا أمام خريطة موازية لسورية لا يحكمها دستور ولا سلطة، بل خرائط نفوذ تتحدّث باسم الدين والخصوصية والسلاح. مقتبس من العربي الجديد.