ليست المتّة في جبل لبنان مجرد مشروب ساخن يُرتشف على مهل، بل طقس اجتماعي وثقافي عميق الجذور، له حضوره المميز في المجالس، ودفؤه الذي يتجاوز حرارة الماء. إنها الكأس التي توحّد ولا تفرّق، تصمت ولا تملّ الكلام، وتجمع الرفاق حول نكهة واحدة، في زمنٍ تتعدّد فيه الأذواق والانقسامات.
دخل شراب المتّة بلاد الشام في أوائل القرن العشرين، مع المهاجرين العائدين من أميركا اللاتينية، لا سيما من الأرجنتين والبرازيل. وبينما بقي هذا المشروب هامشيًا في المدن والسواحل، وجد له مكانًا طبيعيًا في الجبل، وخصوصًا في بيوت الموحدين الدروز، حيث أقام علاقة حميمة مع الناس، حتى صار جزءًا من يومهم، ومظهرًا من مظاهر هويتهم.
في القرى الجبلية، سلكت المتّة دربًا خاصًا. لم تُحبّ فقط لمذاقها، بل لما تحمله من روح ومعنى. فالكأس الواحدة التي يتناوب الجميع على احتسائها تُلغي الفوارق، وتُجسّد التواضع والمساواة. شيخ الطائفة والفتى، الغني والفقير، يجلسون في دائرة واحدة، يمرّرون الكأس ذاتها، في مشهد يُجسّد وحدة الحال وروح الجماعة.
تحضير المتّة لا يحتاج إلى تعقيد: تُملأ الدوّة بالأوراق، ويُسكب فوقها الماء الساخن بعناية، ثم تُشرب عبر مصاصة معدنية ببطء ورويّة. لكن البساطة هنا ليست مجرّد سمة، بل فضيلة. فهي تذكّر بشيم الجبل: الزهد، التأمل، والسكينة. ومجالس المتّة، بطبيعتها، هادئة يغلب عليها السمر، أو الإصغاء، أو حتى الصمت المهيب، كأن الكأس تحاور الأرواح لا الألسن.
شراب المتّة في حياة الموحدين الدروز ليس عادة عابرة، بل حالة يومية تعكس نمط عيش متكامل. الحبيب يرشفها في بيت خطيبته، ليستمد هدوءً يساعده في النقاش حول دروب المستقبل. وصاحب الدكان لا يبدأ يومه قبل أن يذوق أولى رشفاتها، وكأنها مفتاح رزقه واستقراره. والمعلمة تجد فيها رفيقة تحفّز تركيزها في تحضير الامتحانات، إذ تمنحها صفاء ذهن لا تُوفّره القهوة ولا الشاي. أما الزعيم أو شيخ الطائفة، فغالبًا ما يُصوَّر وهو يحتسي المتّة، كعلامة على انتمائه لجذوره، وحرصه على حمل تراث الجبل في كل إطلالة.
لكن، لماذا التصقت المتّة تحديدًا بالموحدين الدروز دون غيرهم؟ المسألة أعمق من مجرد صدفة جغرافية. المتّة، في بساطتها، تنسجم مع فلسفة التوحيد التي تُعلي من قيمة الستر والسكينة، وتُحبّذ التأمل والإنصات. كما أن الحياة الجبلية، بانعزالها النسبي، تحتاج إلى ما يُؤنس القلوب ويُشعر الناس بالتواصل، فكانت المتّة خير جليس، وأصدق رمز لهذا التآلف الصامت.
ويشيع بين الموحدين اعتقاد بأن المتّة ليست مجرد مشروب، بل حاجة نفسية. يُقال إن من لم يشربها في يومه يشعر بأن يومه ناقص، وكأن توازنه الداخلي قد اختل. فالمتّة، في هذا السياق، تُشكّل لحظة انسجام داخلي، وتُعيد ترتيب النفس قبل أن تُعيد ترتيب الكلمات.
ومع مرور الزمن، تحوّلت المتّة إلى علامة فارقة في الهوية. لم تعد مجرد شراب، بل صارت رمزًا ثقافيًا يُعبّر عن الانتماء. ويكفي أن يُقال: “المتّة درزية”، لا لأن غير الدروز لا يشربونها، بل لأنهم لم يصوغوا حولها معنى، ولم يجعلوا منها رابطًا يُحاكي روح الجماعة.
هكذا، بقيت المتّة الكأس التي تُشرب لتُقرّب، وتُحضّر لتوحّد، وتدور لا لتُعاد، بل لتُشارك. في عالم يزداد انقسامًا، تظلّ المتّة عند الموحدين الدروز تذكارًا حيًّا بأن أبسط العادات قد تخبّئ في داخلها أعمق القيم، وأن كأسًا صغيرة قد تختصر روح الجبل بأسره. مقتبس من إيلاف.