00963-942-374376 WhatsApp

الكيان الدرزي لم يعد فكرة مطروحة فقط، بل قرار ينتظر الظروف أن تنضج

منذ الانتداب الفرنسي على سوريا، شكّل جبل الدروز نقطة ارتكاز استراتيجية للمشاريع الإقليمية والدولية الساعية لتطويع البنية الاجتماعية والسياسية في المنطقة، تارة عبر أدوات مباشرة، وتارة عبر قوى داخلية. بين عامي 1921 و1936، أنشأ الفرنسيون «دولة جبل الدروز»، كياناً سياسياً تحت سيطرة الدروز، لكن بسيادة شكلية خاضعة للإدارة الفرنسية. وامتد نفوذ هذا الكيان فعلياً إلى مناطق في شرق الأردن كالأزرق، حيث وُزّعت بطاقات هوية سورية درزية شملت تلك المناطق، في إشارة واضحة إلى الرؤية الفرنسية التوسعية التي كانت ترى في وادي السرحان امتداداً لنفوذها السوري.


ذلك الكيان، بقي حيّاً في الذاكرة الاستعمارية، ثم وجد صداه لاحقاً في مخيّلة الأمن القومي الإسرائيلي. فبعد نكسة حزيران 1967، أعاد وزير العمل الإسرائيلي يغآل ألون إحياء الفكرة من بوابة مراسلات سرية مع رئيس الوزراء ليفي إشكول، اقترح فيها دعم قيام كيان درزي مستقل في جبل الدروز، كحزام أمني يفصل بين إسرائيل وسوريا، وحليف طائفي يعترف ضمنياً بالوجود الإسرائيلي في الجولان. وقد تزامن هذا الطرح مع التوتر المتصاعد بين الدولة السورية والطائفة الدرزية، بعد إعدام الضابط سليم حاطوم، وما تبعه من تهميش متعمّد للضباط الدروز داخل المؤسسة العسكرية لصالح العلويين.

لم تكن خطة ألون نظرية فقط. بل أكّد في مراسلاته أن الاحتلال الإسرائيلي للجولان يمنح المشروع إمكانية واقعية، مشيراً إلى تواصل ميداني مع وجهاء دروز في المنطقة. لكنّ القيادة الدرزية في الجولان رفضت الانخراط في هذا المشروع، وأبدت وعياً وطنياً حادّاً، مدركة أن أي انزلاق في لعبة المحاور سيكلف الطائفة وجودها التاريخي.
اليوم، بعد عقود، تعود الفكرة نفسها إلى الواجهة، ولكن بإخراج جديد، وإحداثيات أكثر جرأة. فبعد أحداث تشرين الأول 2023، وما تبعها من تصعيد عسكري شامل، بدأت إشارات ميدانية تتقاطع في الجنوب السوري، خاصة في السويداء، تشير إلى تحوّلات تُقرأ كأنها تمهيد لإعادة طرح مشروع الكيان الدرزي مجدّداً.
ففي ظل تآكل سلطة الدولة، وتدهور الوضع الاقتصادي، وتفشّي الفراغ الأمني، بات الخطاب الطائفي يجد طريقه بسهولة. تقارير أمنية ووثائق ميدانية رصدت تنامي خطاب «الخصوصية الدرزية» في الجنوب، بالتوازي مع ظهور مجموعات مسلّحة محلية بدأت تتلقّى دعماً لوجستياً وعسكرياً من جهات خارجية، بعضها على صلة غير مباشرة بإسرائيل.


التطور الأبرز جاء في أعقاب ما شهدته مناطق الساحل السوري من مجازر مروّعة بحق أقليات علوية، امتدت تداعياتها إلى أطراف العاصمة دمشق كأشرفية صحنايا وجرمانا، ما أعاد إشعال مخاوف الأقليات من تكرار سيناريوهات التطهير الطائفي. في هذا المناخ المشحون، خرجت مواقف متباينة من داخل الطائفة الدرزية، كان أبرزها تصريح الشيخ حكمت الهجري، الذي دعا في لحظة تصعيد إلى «الحماية الدولية»، ولمّح إلى إمكانية التعاون مع إسرائيل لضمان أمن الدروز في سوريا.

لكن الواقع الميداني أكثر تعقيداً. فالمخطط اليوم لم يعد يقتصر على السويداء. بل تُطرح فكرة كيان درزي يمتد من جنوب سوريا إلى أجزاء من جبل الشيخ والعرقوب جنوب لبنان، يشكّل حاجزاً بشرياً واستراتيجياً بين الجولان المحتل وأي تمدد مستقبلي لحزب الله أو إيران. مصادر إسرائيلية تروّج علناً لفكرة «الدروز كحلفاء طبيعيين»، وتستند إلى تاريخ طويل من التنسيق مع بعض أبناء الطائفة في الجولان. أما الجديد اليوم، فهو أن هذا المشروع بات يُناقش داخل مراكز القرار في تل أبيب كخيار جديّ، في إطار استراتيجية أمنية تُفضّل خوض الحروب المقبلة من «خلف خطوط الحلفاء المحليين» بدل التورّط في جبهات مباشرة.


السؤال المحوري لم يعد إن كانت الفكرة مطروحة، بل ما إذا كانت الظروف قد نضجت لتطبيقها.
حتى اللحظة، ما تزال القيادة الدرزية في السويداء تتمسّك بموقفها التقليدي الرافض للتقسيم أو الاصطفاف الخارجي، لكن استمرار الانهيار الاقتصادي، وتغوّل الفوضى، وغياب الدولة، كلها عوامل قد تعيد صياغة المعادلات على الأرض. من مشروع مؤجل في أرشيف الانتداب الفرنسي، إلى مراسلات سرية بعد نكسة 67، إلى خيار يُدرس بجديّة في 2025، الجنوب السوري يشهد إعادة هندسة سياسية وجغرافية، حيث يُستحضر التاريخ لا بوصفه ذاكرة، بل كأداة لإنتاج خرائط جديدة قد تغيّر مستقبل الإقليم وهويته وحدوده.